القائمة الرئيسية

الصفحات

النهضة الأوربية: بداية انبعاث أوربا

 


تعددت أسباب ومظاهر غصر النهضة الأوربية   

لم يكن الانتقال من العصور الوسطى الى العصور الحديثة مفاجئا أو واضحا او محددا بعدد من السنين، وانما تم بشكل تدريجي، ذلك ان لكل عصر جذور تمتد في أعماق العصر الذي سبقه، ويعتبر عصر النهضة الذي يطلق عليه ايضا ( البعث الجديد) أو( الانتعاث) (الولادة الجديدة) renaissance مرحلة انتقال بين العصور الوسطى والعصور الحديثة، ولم يظهر عصر النهضة مرة واحدة في كل أنحاء أوربا، فقد اختلف من بقعة الى أخرى زمانا ومكانا، فايطاليا سبقت غيرها من دول اوربا في النهضة التي بدأت فيها قبل منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، ويعود سبب ظهور اولى بوادر الانبعاث الحضاري في ايطاليا قبل غيرها من الدول الى أنها كانت مركز الامبراطورية الرومانية، فرغم سقوط هذه الأخيرة ظلت معظم اثارها من أبنية شاهقة ومنشآت وجسور وتماثيل ومخطوطات علمية وادبية مما كان يبعث في نفوس الايطاليين مشاعر الفخر والاعتزاز بالماضي الحضاري العريق الذي كانت اثاره الشاخصة امام اعينهم تمني انفسهم بالعودة الى ذلك الماضي ببعثه من جديد. وقد تححق لهم هذا حينما جمعوا المال والذهب نتيجة ممارسة حكام وسكان المدن الايطالية للتجارة وأعمال النقل البحري أيام الحروب الصليبية مما جعل هذه المدن قادرة على القيام بحركة النهضة والانبعاث. وقد قامت فلسفة عصر النهضة على الانسان كأساس لحركتها وهدف من أهدافها.وتعتبر حركة إحياء التراث من أبرز ومن أول مظاهر عصر الانبعاث، وهي عبارة عن محاولة للعودة الى التراث اليوناني والروماني لدراسته والتعرف على ما فيه من علم ومعرفة وقد بدأت هذه الحركة بالبحث عن المخطوطات اليونانية واللاتينية وجمعها ودراستها. كما نشطت حركة الترجمة، فترجمت الكثير من مؤلفات أفلاطون وأرسطو وسقراط من اليونانية الى الايطالية، هذا دون أن ننسى الدور الكبير الذي لعبه العرب المسلمين في الأندلس في توجيه المثقفين والمتعلمين نحو آثار اليونان القدماء بما ترجموه من اليونانية الى اللغة العربية ومن ثم الى اللاتينية. وقد أدت هذه الحركة الى تغيير نظرة الناس الى انتاج الرومان واليونان القدماء.

الحركة الإنسية :

ارتبطت هذه الحركة بإحياء التراث وقد اطلق اسم الانسانيين على هذه الحركة لأن المعنيين بها كانوا يهتمون بدراسة الانسان نفسه وهو امر جديد، ذلك ان العصور الوسطى تناست انسانية الانسان فتفشت افكار التقشف والصوم واذلال الجسد والاهتمام بالروح، وعلى عكس ذلك انطلق مفكري عصر النهضة من منطلق جديد وهو الاعتزاز بالانسان والتأكيد على الثقة بالنفس ، فقد كانت صورة الانسان تمثل القوة والايمان بالذات والثقة بالنفس. وقد انعكست حركة احياء التراث بشكل واضح في النهضة الفنية التي تجلت من خلالها معاني الفنون الجميلة. كالنحت والعمارة والرسم، فقد اتخذ فن النحت في تطوره منهجا يقوم على النهل والتزود من الترات القديم الروماني واليوناني. ويعتبر مايكل أنجلو أبرز نحاتي عصر النهضة وقد اشتهر حين قام بنحث المجموعة الرخامية الشهيرة التي تمثل العذراء والطفل وقد تأثر هذا الأخير بالمدارس الاغريقية والفلسفة اليونانية الى جانب المدرسة الطبيعية. ولأنجلو اعمال اخرى في النحت تنطق بعبقريته مثل تمثال العذراء والمسيح المقام في كنيسة القديس بطرس في روما وتمثال داود العظيم المنحوث من الرخام وقد نصب هذا التمثال امام قصر الامارة في فلورنسا عام1504. اما فن العمارة فيعتبر برونللسكي من أبرز معماري عصر النهضة في ايطاليا، فقد درس فنون العمارة الرومانية القديمة ، خصوصا عمارة المسارح والمعابد وحاول أن يحي بعضها في ابنية فلورنسا وقد حقق ذلك في كاتدرائية المدينة سنة 1400م.أما في الرسم فقد برع ليونارد دافنتشي1452-1519 الذي بلغ قمة الابداع في رسمه لوحة العشاء الأخير الشهيرة والتي تصور منظر جميل جمع بين المسيح وحواريه الاثنى عشر وهو يعلن لهم ان احدهم سوف يخونه، وقد ظهر وجه المسيح بصفاته الروحانية وهدوئه الكبير بينما ظهر على وجوه اتباعه الاضطراب وفي عام 1506 رسم دافنشي في فلورنسا رائعته الشهيرة الموناليزا (جيوكندا) وهي لوحة لسيدة شابة جميلة كانت متزوجة من ضابط يكبرها سنا اسمه جيوكندا ، وكان حاكم فلورنسا معجبا بجمالها الهادئ الحزين فأمر دافنشي برسمها، وقد استغرق رسمها اربع سنوات حتى خرجت رائعة خالدة ما تزال موضع اعجاب حتى ايامنا هذه.


تمسكت حركة احياء التراث باللغة اللاتينية لذلك لم يحاول الانسانيون في بداية عصر النهضة استعمال الايطالية، لكن مع انتشار العلم والمعرفة بين مختلف فئات الايطاليين وخصوصا بعد اختراع المطبعة، وجد الانسانيون انفسهم مدفوعين بقوة الى استعمال الايطالية لأنهم وجدوا لكتاباتهم بها رواجا وانتشارا لأن جماهير المدن كانت تجهل اللاتينية، فأصبحت الايطالية لغة الأدب والشعر والفلسفة.ولم يقتصر الأمر على ايطاليا وحدها فقد فرضت الفرنسية في القرن 16 وجودها وفي القرن نفسة فرضت اللغة الاسبانية نفسها في اسبانيا ( دور المطبعة).

لم تكن النهضة الادبية والعلمية سطحية في دراستها للظواهر والعلوم بل كانت متعمقة تعتمد التحليل والاستنتاج والبحث العلمي والتفكير المنطقي. ولهذا لم يعد الناس يتقبلون الاساطير التي كانت الكنيسة تغذي عقولهم بها. فنشأ اتجاه جديد في علم التاريخ يعتمد على التحليل والاستقراء والاستنتاج بإخضاع الرواية التاريخية للبحث والمناقشة وصولا الى الحقيقة التاريخية غير المزيفة. ومن المؤرخين الذين برزوا في هذه الفترة بشكل كبير، ميكافيلي الذي اشتهر بكتابه" الأمير " الذي يتضمن اأفكار عن أصول الحكم والسياسة، وقد دون أفكاره على شكل نصائح يقدمها الى أمير وطني تخيله منقذا لإيطاليا من الانقسام والغزو الأجنبي، واضعا نصب عينيه مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " وينصح ميكافيلي الأمير أن يكون انسانيا وطاغية في آن واحد .

أثر الحضارة العربية الاسلامية في تهضة أوربا : اعترف العديد من المؤرخين الأوربيين بفضل العرب على أوربا ، وأكدوا ان الأوربيين يدينون للعرب  بحضارتهم التي بدأت بعصر النهضة.ففي ق 9و10م كانت الحضارة العربية الاسلامية في الاندلس في اوج عظمتها بينما نجد أن مراكز الثقافة في الغرب كانت عبارة عن ابراج يسكنها امراء اقطاعيون متوحشون يفخرون انهم لايقرأون. واستمرت همجية اوربا هذه زمنا طويلا الى أن ظهر بعض الميل الى العلم في القرنين 11و12، ولم يكن أمام الاوربيين غير التوجه الى العرب اصحاب الحضارة والرسالة الخالدة، فقد كان طلبة العلم من الاوربيين يسافرون الى الأندلس والمشرق العربي، إذ لم يظهر في أوربا قبل القرن15م عالم لم يستنسخ ما في كتب العرب، وقد شكلت هذه الأخيرة المصدر الوحيد تقريبا للتدريس في جامعات أوربا لمدة ستة قرون، بل أن كتب ابن سينا في علم الطب كانت تدرس في أوربا حتى آواخر القرن الثامن عشر،وكذلك فلسفة ابن رشد.


إكتشاف المطبعة :

يعتبر اكتشاف المطبعة سنة1471 من طرف غوتنبرغ وشريكه جون فوست مهدا للنهضة الأوربية وذلك تجلى بشكل جلي في تطور المشهد الثقافي في أوربا خصوصا في القرن السادس عشر أو القرن الجميل عند الأوربيين، وقد انتشرت هذه المجرة التاريخية بشكل تدريجي في أنحاء أوربا. وقد مكنت من الإكثار من الكتب وجعلها في متناول عامة الناس على عكس ما كان سائدا، إذ كانت الكتب تقتصر على النخبة، هكذا غيرت المطبعة المشهد الثقافي بأوربا خلال ق 16 ومن بين أهم الأفكار الجديدة التي روجت لها المطبعة نذكر ما أنتجه المتقفون في إطار " الحركة الإنسية " أو " الإنسانوية " أمثال ديديي إيراسم وتوماس مور وفرانسوا رابلي: بالنسبة لإيراسم 1436-1536 مكنته معرفته باللغة اللاتينية والإغريقية من تجديد قراءة النصوص الكلاسيكية وحتى المقدسة فقد نشر الإنجيل بلغته الاصلية وهي الإغريقية وذلك بسبب التحريفات التي اصابته من جراء ترجمته الى اللاتينية وقد وجه هذا المفكر انتقادات قوية للكنيسة إذ اعتبر أن مشكلة الذين في أوربا تكمن في الانحراف عن المسيحية الحقيقية التي اعتنقها الناس في البداية. أما بالنسبة لتوماس مور1478-1535 فقد كان رجل فكر ودين وقانون، مما أهله أن يكون مستشار لملك انجلترا هنري الثاني في القضايا الدينية والسياسية للبلاد. وقد تاثر هذا المفكر بالفيلسوف اليوناني أفلاطون وهذا يفسر دعوته الى انشاء مجتمع مثالي يديره الحكماء من أهل العلم ويقبل بالإختلاف في الرأي والعقيدة. أما فرانسوا رابلي 1494-1553 دافع عن حرية الفكر وهاجم الاستبداد الثقافي الذي مارسته الكنيسة وقد توجه رابلي بانتقادات ساخرة الى المنظومة الثقافية الموروثة عن العصر الوسيط.


تعددت دوافع ونتائج حركات الإصلاح الديني

كانت الكنيسة في العصور الوسطى هي الموجه الرئيسي لسياسة الأمراء والملوك فقد سعت الى السيطرة الشاملة ولهذا كان من الصعب زعزعت هذا النظام الفيودالي القائم اساسا على الهرمية هنا وهناك من البابا الى القس ومن الأمير الى الفارس، لكن مع نهاية العصر الوسيط وعندما اخذت الفيودالية في التفكك والانهيار بدأت الموازين الاجتماعية والثقافية والدينية تتغير خاصة بعد إرتقاء البورجوازية التي ساهمت في إحداث تغيير شامل في أوربا نتيجة دعمها وتبنيها للفكر الاصلاحي والنظام الملكي الذي أدى الى إضعاف سلطة الأساقفة. وهكذا بدأت معادلة الكنيسة والسلطة تتغير. حيث كانت قبل ق 13 تقوم على أساس احتكار الكنيسة للسلطة، لكن هذه المعادلة أخذت تتغير مع بداية ق 13 مع تنامي النفوذ الملكي على أرض الواقع في مواجهة الفيوداليات المحلية والدعوة الى اسقاط الوساطة الدينية التي تلعبها الكنيسة، وقد إنطلقت أزمة الكنيسة من قمة الهرم قبل أن تأخذ بعدا عاما، وذلك يمثل في إنقسام الكنيسة الغربية الذي يعرف في تاريخ أوربا ب " الإنشقاق الغربي الأعظم " الى سلطتين بابويتين، بابا في روما وآخر في مدينة أمينيان بفرنسا، ولم تستطع الكنيسة حل هذه المشكلة الا في سنة 1417 حينما اعترف المجمع الديني المنعقد بمدينة كونستونس في ألمانيا ، ببابا واحد هو مارتان الخامس، هذا الانقسام  سيكون بمثابة البداية لموجة من المشاكل التي ستعرفها الكنيسة الأوربية من الفساد المتمثلة اساسا في فساد رجال الدين، أما ما سوف يفيض الكأس فهو بيع صكوك الغفران، وهي شهادات كانت الكنيسة تزعم أنها تضمن المغفرة لمن يشتريها من مرتكبي الذنوب. هذا الفساد الذي عرفته الكنيسة سيؤدي الى ظهور مجموعة من الحركات الاصلاحية والتي اتخذت اشكالا مختلفة جماعية وفردية لكن هذه الحركات تعرضت للقمع الشرس من طرف الكنيسة المركزية، ويعتبر التشيكي جون هوس1369-1415 نوذجا لما اسماه الباحثون ب " الاصلاح الديني الأول" فقد وجه انتقادات قوية للكنيسة كما نادى بالعودة الى تعاليم المسيح الاصلية والالتزام بمبادئ العدالة الاجتماعية، كما دعا الى السير على نهج كنيسة الروح، مجسدا ذلك بقوله "لا أحد يمثل المسيح او القديس بطرس ، اذا لم يسر على تهجهما" غير ان الكنيسة الرسمية تمكنت من التخلص منه وإحراقه حيا سنة 1415، غير أن أفكاره بقية حية في أوساط عامة الناس، ممهدا بذلك الطريق لمصلح ديني جديد هو الألماني مارتن لوثر 1483-1546 الذي تأثر كثيرا بأفكار ومبادئ جون هوس وقال لقد لقد أحرقول هوس لكنهم لم يحرقوا الحقيقة، وقد انطلق لوثر في بلورة مذهبه انطلاقا من اشكالية وجودية وهي كيف السبيل للوصول الى الحقيقية الإلهية، وبذلك عمل على تغيير الإنسان وتحريره من التصور الديني السائد القائم على ما يجب أن يفعله المسيحي لا على ما يجب ان يكون عليه المسيحي ذاته، ومن ثم صرح لوثر بأن على الانسان أن يكون حرا في تصوره للدين وأن لا يخضع لأحد غير خالقه، وبذلك شن حملة احتجاجية على ممارسات الكنيسة الرسمية وعلى البابا نفسه، مستندا في ذلك من جهة الى دعم الاوساط البورجوازية المتحررة والأرستقراطية المستنيرة، ومن جهة أخرى الى فصاحته في إقناع الأساقفة والرهبان وطلاب كليات اللاهوت حيث كان يشغل منصب أستاذ بجامعة فيتنبورغ، مما سهل عليه الأمر في إقناعهم للتخلص من وصاية الفاتيكان، كما ندد بسياسة صكوك الغفران واعتبر أن الإيمان هو السبيل الى الخلاص دون اللجوء الى صكوك الغفران، وقد ساهمت المطبعة في شن حملة اعلامية على الكنيسة المركزية في روما ،وكما هو الشأن بالنسبة للوثر كان المصلح الفرنسي جون كالفن 1564-1509 ذا تكوين متعدد في اللاهوت والقانون والفلسفة اليونانية، وقد تأثر بلوثر، غير أن كالفن لم يرغب في بداية الأمر في خلق انشقاق داخل الكنيسة الفرنسية على النحو الذي نلمسه في ألمانيا وإنما فقط في اصلاحها وجعلها تنهج طريق الإنجيل القويم، ومعلوم أن رد فعل الكنيسة كان عنيفا، إذ اعتقلت الكثير من أنصار ما كان يسمى " جماعة مدينة مو " وأحرقت منهم أربعين فردا وأقدمت على تدمير كنيسة مو الاصلاحية سنة 1546م، وقد أنشأ كالفن بمدينة جنيف مؤسسة دينية من طراز جديد تميزت بالبساطة بعيدا عن تعقيدات الكنائس الكاثوليكية كما سعت الى الاستقلال عن سلطة المدينة، وتكوين رجال مشبعين بالقيم الاصلاحية الجديدة، يكون بمقدورهم تلقينها للكبار والصغار، وقد استفاد كالفن شأنه شأن لوثر من المطبعة في نشر أفكاره في بلدان كثيرة من أوربا كسويسرا وهنغاريا وهولندا وإنجلترا ، التي شهدت فيها البروتستانتية تطورا خاص بالقياس الى التفاعلات السياسية والدينية التي عاشتها البلاد في ق16، ففي عهد الملكة اليزابيت تغيرت الأمور بشكل كبير، حيث أن في سنة 1671 تبنت الدولة مجموعة من القوانين التي دفعت باتجاه المذهب البروتستانتي القائم على التوفيق بين اللوثرية والكالفينية،وتعتبر سنة 1588 محطة هامة في تاريخ البروتستانتية بإنجلترا إذ تمكن الانجليز من التخلص من الهيمنة الكاثوليكية وتأمين الاستقلال التام للبلاد تحث راية البروتستانتية.

تعاريف ومصطلحات

الأنجليكانية : يقوم هذا المبدأ على التوفيق بين مختلف التيارات المعروفة ولكن ما يميزه أن الملك كان رئيس الكنيسة الأعلى.

تعليقات